مدخل:
أعتذر للقراء الكرام للاضطرارنا اضطرارا للخوض في هذا الموضوع الذي لا يجوز السكوت عنه في ظرف كان يجب أن لا يسال فيه حبر إلا عن غزة العزة وفلسطين الأبية.
ما كان ينبغي لنا بعد الوقوف على نص الاتفاقية الخاصة بجعل بلادنا موطنا للمهاجرين الأفارقة إلى أوروبا التي أرادت أن تتخلص منهم وكان الأولى ببلدانهم الأصلية أن تستقبلهم وتأويهم، فالساكت عن الحق شيطان أخرس، والشيء بالشيء يذكر.
التاريخ عبرة لمن يعتبر:
تعتبر الأزمة المزمنة في شرق الكونغو الديمقراطية (كيفو) عبرة، فهي من بين أكثر النزاعات دموية بعد الحرب العالمية الثانية. وصل عدد الضحايا إلى الملايين.
إنه السيناريو المنوي تنفيذه في موريتانيا من خلال اتفاقيات في ظاهرها مسالمة وباطنها غاية في العدوانية والافتراس.
الأسباب:
تعتبر إشكالية الهوية والإنتماء لمجموعات معينة من السكان إلى الكونغو أهم الدوافع للصراع، وكان للإجراءات التي اتخذتها السلطات الإستعمارية (بلجيكا) 1885 ـ 1960 الأثر الكبير في تشكل الأزمة والصراع، وجاء الجنرال مبوتو سسيكو بعد الإستقلال بغية تعزيز نفوذه لتشكل عاملا آخر في اشتداد حدة الصراع.
الأزمة الهوياتية:
كما كان الإستعمار يرسم الحدود لقسيم مناطق نفوذه على أسس عرقية تتداخل فيها الأقليات المحلية أو المستجلبة مع واقع سكاني محلي عمدت السلطات البلجيكية إلى استقدام مجموعات عرقية لإقليم كيفو الشمالي والجنوبي من أقلية التوتسو المسيحية الرواندية المجاورة للكونغو معتمدة على ولائهم المطلق للتحكم أكثر في الإقليم الذي يعد من أغنى الأقاليم الكونغولية بالمعادن الثمينة والنادرة، رغم ما جلبه ذلك من تذمر بين السكان الأصليين الذين يمثلون الغالبية العظمى في الإقليم ويدينون في الغالب بمعتقدات وثنية.
إنها اللعبة الجيوسياسية لترجيح كفة خفيفة الوزن على أخرى أثقل لدوافع اقتصادية وسياسية واجتماعية بعيدة المدى.
لقد غرس البلجيك بذلك أول بذرة للفتنة بعد أن نصبوا التوتسو أسيادا على الإقليم قبل أن ينسحبوا من الكونغو. ثم جاء مبوتو سسيكو في العام 1965ـ1997 إثر انقلاب دموي على المناضل الإفريقي الشهير باتريس لومومبا الذي كان يحظى بشعبة هائلة بين السكان المحليين.
كان للإجراءات التي اتخذها مبوتو سسيكو لتعزيز نفوذه بالإعتماد تارة على التوتسو وتارة الإنكفاء عنهم لإرضاء أهل الأرض الأثر الأكبر في تفجر الأوضاع فتمخضت عن تلك اللعبة الخطيرة حرب أهلية ظلت نيرانها مشتعلة إلى اليوم.
أصدر سسيكو في العام 1972 مرسوما أعطى بموجبه الجنسية الكونغولية لجميع المقيمين من الأصول الرواندية أو البروندية ممن أقاموا في الإقليم منذ 1950 وما قبل ذلك، فقوبل هذا الإجراء بسخط عارم بين السكان المحليين الذين تأذوا من سطوة المهاجرين الجدد على أراضيهم إبان الإستعمار وعنصريتهم بعد الإستقلال وكان لهذا الإجراء أن توسع المهاجرون الجدد في امتلاك الأراضي وبسط النفوذ أكثر.
أشتد التوتر بين المهاجرين والسكان المحليين مما أنذر بانفجار حرب أهلية، وفي محاولة لترميم العطب الحاصل واسترضاء السكان المحليين، قام مبوتو سسيكو بإجراء آخر مضاد تمثل في ربط منح الجنسية للأقاليم الشرقية (كيفو الشمالية وكيفو الجنوبية) بالإنتماء إلى إحدى الجماعات الإثنية التي كانت موجودة في الإقليم قبل الإحتلال البلجيكية 1885، وكأنه بذلك قد شطب على مقتضى الإجراء الأول القاضي بمنح التوتسو الجنسية. كان هذا الإجراء سببا لتعميق انعدام الإستقرار ففجر أزمة نجم عنها تمرد ثم حرب أهلية ذهب ضحيتها الملايين من البشر من تلك المجموعات المتصارعة على إشكالية الإنتماء والهوية وعلى التنازع على الأرض والنفوذ. أزمة نسمع عنها من حين لآخر فاقت في حدتها فتن إفريقيا مجتمعة، بل وكانت سببا في إحداث فتن أخرى اشتعلت في القارة.
ظلت الكونغو منذئذ قاب قوسين أو أدنى من التمزق، وشهد شرق الكونغو مذابح مروعة وهتكما للأعراض بالجملة وسلبا للأموال ومجازر متتالية وصل عدد ضحاياها 6 ملايين نسمة من البشر ولازالت الكونغو إلى اليوم غير قادرة على التعافي من تبعات الحرب الأهلية التي لم تتوقف بعد، وإن تخللتها هدن.
هذه الأزمة هي من هندسة وافتعال المحتل (بلجيكا) وليس من الغريب أن تصدر الإتفاقيات التي تهدد موريتانيا في صميم أمنها القومي من عاصمة بلجيكا تلك التي يوجد مقر الإتحاد الأوروبي بها، وكأن الأمر يذكرنا بما سيكون عليه الحال لو أن موريتانيا استسلمت لما يراد لها من سوء وشر، حينما يراد لها أن تكون موطنا لشذاذ الآفاق من المهاجرين الأفارقة وغير الأفارقة من مختلف المعتقدات والمشارب والأهواء ومتعاطي وتجار المخدرات.
إنها اللعبة الخبيثة المتخابثة المتلاعبة بالألفاظ والعقول، فما أشبه اليوم بالبارحة.
الموقع الجيوسياسي للبلاد:
ليس غريبا ولا صدفة أن يكون منطلق الدولة المرابطية من هذه البلاد، فللموقع تأثيره وأثره في تلك القفزة في التاريخ الإسلامي المجيد، حيث كان لدولة المرابطين المباركة الباع الطويل في التاريخ وفي الفتوحات في إفريقا وفي أوروبا، فما المستقبل إلا امتداد للماضي والتاريخ ما هو إلى جغرافيا متحركة.
بلاد شنقيط، كامتداد للعالم العربي غربا، متوغلة في الجوار الإفريقي الغربي، وهذه في حد ذاتها ميزة.
الواجهة البحرية للبلاد (700 كلم) ترشحها لتكون دولة بحرية من الطراز الأول.
بلادنا من بين الدول الأكثر أهلية لإنتاج الهيدروجين الأخضر مما يبشر بنهضة بمجال الطاقة والطاقة البديلة وتوفر الطاقة عامل أساس في التنمية الشاملة.
المساحة البرية المتسعة للبلاد لما تحويه من ثروات هائلة ترشحها لتكون دولة صناعية من الطراز الأول.
النهر بطول يزيد على 800 كلم وبمحاذاة حدودنا الجنوبية يرشحها لأن تكون دولة زراعة من الطراز الأول.
الثروة المعدنية وعلى رأسها الذهب المدفون في باطن أرض البلاد بكميات هائلة ترشحها لأن تكون مركزا لأكبر بورصة في سوق الذهب.
التركيبة السكانية المنتمية إلى حضارة واحدة (الحضارة الإسلامية)، وإلى ثقافة واحدة (لغة القرآن العظيم) ترشحها لأن تكون من أكثر البلدان في القارة استقرارا وانسجاما. تلك هوية البلاد التي لا تنازع فيها.
دعوة المرابطين الأولى مشروع صنع دولة حكمت الشمال والغرب الإفريقي وامتد نفوذها إلى أوروبا حينما استنجد المعتمد بن عباد ملك غرناطة وقرطبة بأمير المسلمين يوسف بن تاشفين اللمتوني في العام 1086م بعد تأسيس الدولة المرابطية بعشرين سنة فقط ليهرع إليه نجدة سريعة فيقضي على جيش الفونسو السادس في معركة الزلاقة الخالدة التي تقابل فيها جيش المسلمين بقيادة الأمير المظفر يوسف بن تاشفين اللمتوني في عشرين ألف مقاتل وهو في سن التسعين ممتطيا جواده يشد مع الكتائب شدا إلى أن انتهت المعركة بعد يوم طويل بالقضاء على جيش الكفار الذي يفوق عدد المسلمين بخمسة أضعاف ويزيد، حيث لم يتبقى من جيش الإسبان إلا خمسمائة مقاتل، وكانت هذه المعركة نصرا زلزل أوروبا كلها وأطال في عمر الدولة الإسلامية في الأندلس قرونا أربعة. وكان للحملة المرابطية جنوبا الأثر الواضح في فتح قلوب أهل الغرب الإفريقي للإسلام ولغاية دلتا النيجر. اقتفاء أثر المرابطين في دعوتهم لنشر الإسلام ترشح الدولة لأن تكون مصدر إلهام وإشعاع وتأثير إيجابي في الإقليم والقارة بما يعني اتساع المجال الحيوي للبلاد.
لهذه الأسباب كلها، تريد أوربا لموريتانيا أن تصبح حلما ميتا قبل أن يولد تزامنا مع اكتشاف موارد طبيعية ضخمة (غاز ـ ونفط وذهب) قد تجعلها من أكثر الدول اكتفاء بالموارد وتأثيرا ووزنا في الإقليم والقارة.
الخلاصة:
هذه الإتفاقيات إن أجيزت ـ لا قدر الله ـ ستكون بمثابة من يطلق النار على صدره وعلى أبيه وأمه وعلى زوجته وولده وأخيه وأخته وذويه.
إنها بمثابة وصاية استعمارية بأهداف استيطانية إحلالية للقضاء على الإسلام والمسلمين في بلاد شنقيط.
إنها الفتنة السوداء
الدولة ليست وسيلة هدم، وإن حدث ذلك فإن الأمر يمثل خللا مؤسساتيا يجب التكفل بمعالجة أسبابه وعلى الفور.
أيا كانت الجهة من وراء الاتفاق مع الإتحاد الأوروبي لتحويل موريتانيا إلى مسرح للفتن والحرب الأهلية، فإن هذه الجهة تصبح خطرا وجوديا على الأمن القومي للبلاد ويجب أن تمنع من ذلك وتدفع الثمن.
على كافة القوى الحية في البلاد رفع عقيرتها تنديدا واحتجاجا ورفضا للإتفاق.
{فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين} المائدة ـ 52
اللهم أحفظ بلدنا وسائر بلاد المسلمين من كل أذى ومكروه وأنصر أهل غزة وأهل بيت المقدس وأكناف بيت المقدس على اليهود المعتدين المفسدين الظالمين وأجعل ما يجمعون من سلاح وعتاد وأموال أنفالا وغنائم لأهل فلسطين والمسلمين.