يُعد مقال الأستاذ أسلم بن السبتي الموسوم ب: الضائع من مكتبات مخطوطات مدينة شنقيط.
حول تراث مكتبات مدينة شنقيط ومصير مخطوطاتها المفقودة مساهمة بالغة الأهمية في تسليط الضوء على جانب مُهم من التاريخ الثقافي والعلمي لهذه المدينة العريقة، خصوصًا بالتزامن مع مهرجان المدائن.
يتناول المقال أهمية تراث مكتبات مدينة شنقيط ومصير مخطوطاتها المفقودة، مسلطًا الضوء على أبعاد أزمة التراث المخطوط وأهمية صونه. يشير المقال إلى أن المخطوطات المتبقية توثق حقبة من الازدهار الثقافي والعلمي، ويؤكد أن المكتبات الشخصية كانت الوسيلة الأساسية لحفظ هذا الإرث، رغم تعرضه للتلف بسبب العوامل الطبيعية والإهمال.
يدعو الكاتب المؤسسات الثقافية والباحثين للاهتمام بالمكتبات المتبقية وتنظيم محتوياتها وجعلها جزءًا من النشاط الثقافي العام عبر المعارض والدراسات. ويربط المقال بين الحفاظ على المخطوطات وتعزيز الهوية الثقافية والحضارية، معتبرًا صيانة هذا التراث استثمارًا في المستقبل ونهضة معرفية.
كما يقدم المقال رؤية متكاملة تدعو لتحرك عاجل لإنقاذ المخطوطات من خلال التوثيق الرقمي والترميم المادي وإشراكها في الأنشطة الثقافية، حفاظًا على التراث الوطني وتعزيزًا للهوية الحضارية للأمة وربطًا للأجيال الحالية بماضيها العريق.
يصدق هذا المصطلح في علم المخطوطات على ما ضاع من المخطوطات التي كانت في فترة معينة كائنة موجودة، غير أنها ولأسباب مختلفة قد ضاعت أو ضاع أكثرها، ومن هنا فإن كل ما تبقى منها يعد شاهدا على فترة ازدهارها في أيدي ملاكها، كل هذا يصدق على جملة من مكتبات مدينة شنقيط، فقد كانت المدينة تعج بالمكتبات الشخصية، إذ لا تخلو دار من الدور إلا وتجد بعض الكتب مصففة في “الكوة” الصغيرة، أو موضوعة فوق “طرنه”، وقد وقفت على شواهد كثيرة تثبت أن أسر المدينة كانت تمتلك مثل تلك المكتبات حتى أنك تجد في عقودهم تسليم الكتب من تركة فلان لورثته أو فردا منها بعينه.
ومن هذا المنطلق، فإننا ننطلق إلى تبيان بعض ما أومأنا إليه من ضائع المكتبات، ونقتنص مثالا على ذلك مكتبة أهل الحسن، فهذا الأسرة، العظيمة الغنية بمالها وتراثها، وعلمها، منها إمامة المسجد ومنها سدنة تراث المدينة بما سطرته من خلال خطوطها الرائعة، ونسخها لأهم مصادر ذلك التراث وقد فصلت ذلك في بحث مطول عنها وسمته بعنوان: ” أسر نساخ مخطوطات مدينة شنقيط، أسرة أهل الحسن أنموذجا” فلا تكاد تطالع في مكتبة من المكتبات المدينة إلا وتقف خطوط هذه الأسرة أمام عينيك رحم الخلف، وبارك في الخلف، وهذا كله يعطيك الدليل البين على أن هذه الأسرة كانت تمتلك مكتبة عظيمة، فأين ذهبت تلك المكتبة؟ وهل ما تبقي منها يشهد على ذلك؟ هذا ما نعالجه في هذا المقال.
لقد كان لأحد أبناء هذه الأسرة الكريمة اهتمام لطيف بما تبقى من تلك المكتبة، فجمع ما استطاع جمعه مما تركت الآفات بأنواعها، فألقي به إلي مشكورا، فما كان مني إلا أن أقبلت عليه فرحا بما قد تتضمنه تلك البقايا من نوادر المخطوطات والوثائق والعقود القديمة، فلم تخيب أملي تلك البقايا وأثبتت مقولتي أن الضائع كان أعظم.
ففي هذه المكتبة تجد الأوراق الكثيرة من الكتب النادرة، بداية الكتاب مرة، ونهايته مرة، وأوراق من وسطه مبعثرة، وهذا كله بسبب ذلك الضياع، وتلك الآفات التي ذكرناها، فمن الوثائق وقفت على وثيقة مؤرخة في القرن الثاني عشر الهجري، أي في حدود سنة 1125ه تتحدث عن حياة أهل شنقيط فيما يتعلق بتقسيم النخيل، والذي كانت ثمرته بمثابة الذهب الأسود عندهم، فمنه يبيعون ويشترون ويأكلون، فتجارته توازي تجارة الملح.
ومما تمتلكه هذه المكتبة بقايا من كتاب إحياء علوم الدين للغزالي منسوخة بخط النسخ، من تجزئة من خمسة أجزاء، فقد ضاعت تلك الأجزاء كلها، ولم يبق منها إلا ورقات شاهدة على ذلك الضياع، ومن ذلك الكتاب النفيس وبخط النسخ أيضا وفي ورق سميك، الموسوم “بالمرتجل في شرح الجمل”، لأبي محمد، عبد الله بن أحمد بن أحمد بن أحمد بن الخشاب، المتوفى سنة 567ه، فقد بقيت منه هو الآخر ورقات بحكم التسع، شاهدة على ضياعه. ونضيف كتابا آخر وهو كتاب: تفسير الجلالين، لجلال الدين المحلي وجلال الدين السيوطي، فقد بقيت منه ورقات عديدة ويظهر أن المكتبة كانت تملك منه نسخة بخط مغربي.
ومن تنوع مفردات هذه المكتبة نسجل حضور بعض كتب الحساب، مثل: منية الحساب، لمحمد بن أحمد بن محمد بن محمد بن علي بن غازي، أبو عبد الله المتوفى سنة 919ه، وهو هنا تام بخط مغربي. و”منية الحساب”، لعبد الواحد بن أحمد الونشريسي المتوفى سنة 955ه، ولم أقف عليها في المصادر، وهي تامة وقد نسخها محمد البشير بن الحسن بن محمد بن عبد الرحمن بن أحمد بن محم بن سيد مالك، في وقت الضحى من يوم الخميس في تاسوعاء من شهر الله المحرم رأس العام 1219ه، ينظر إلى جمال خط ناسخ هذه المخطوطة وهو من أمهر نساخ هذه الأسرة، وإلى دقته في تحديد الوقت، بالزمن واليوم والشهر والسنة، فهي خاصية من خصائصه رحمه الله تعالى.
ومن مقتنيات هذه المكتبة عدة عناوين من مؤلفات علماء بلاد شنقيط، نذكر منها:” نظم الخزرجية”، لعبد الله بن أحمد بن الحاج حمى الله القلاوي المتوفى سنة 1209ه، وهي تامة ونسخها من تحدثنا عنه سابقا في وقت العصر من يوم الثلاثاء في يوم التاسع من صفر عام 1218ه، ومن ذلك أيضا “تحفة المحقق في حل مشكلات المنطق”، للمختار بن بونه الجكني المتوفى سنة 1220ه، وهي مبتورة الآخر، ونظم الردة، للنابغة محمد بن أعمر القلاوي المتوفى سنة 1245ه وهو تام مثل عديله الأول.
ومن نوادرها برد التشديد في مسألة التقليد، أحمد بن مبارك، بن محمد السجلماسي، اللمطي، المتوفى سنة 1156ه ذكره الزركلي في أعلامه. وتم طبعه في وزارة الأوقاف بالكويت. وقد نسخه للمكتبة عبد الرحمن بن البشير بن الحسن، في أواخر يوم من ذي الحجة عام 1283ه. ومنها أيضا “الاقتصاد على الكوكب الوقاد”، لجلال الدين، عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي، المتوفى سنة 911ه وهو تام، نسخه محمد البشير بن الحسن بن محمد بن عبد الرحمن بن أحمد بن محم بن سيد مالك، في وقت العصر من يوم الاثنين في الثامن عشر من شهر الله رمضان، عام 1226ه. وقد تم طبعه.
ينضاف إلى ما سبق كتاب الوثائق الفاسية(كتاب في ألفاظ العقود)، لمؤلف مجهول، وهو كتاب نادر في تخصصه، فقد سار على نهجه كل موثيقي بلاد شنقيط، ويظهر أنه كان مصدرا من مصادر التوثيق في بلاد المغرب بحكم إسناده إلى مدينة فاس العامرة، وهو في مكتبتنا هذه مبتور الأول، مع سلامة الورق وجودته.
وتعج رفوف هذه المكتبة صغيرة الحجم، كبيرة المعنى، بالقصائد والأنظام المختلفة، للشعراء الجاهليين، والأمويين، وشعراء بلاد شنقيط، وغيرهم. كما تحتفظ هذه المكتبة بعدة نسخ من نظم الظاء والضاد منسوبة لابن مالك، وهي منسوبة لابن قتيبة في بعض المصادر، ولغيره في أخرى.
وفيها من الفوائد المتنوعة، كالأدعية، والأحراز، والأنقال من المصادر المتنوعة، ونصوص النحو، وعلم الفلك، ما يزيدها ثراء وتنوعا واحتفاظا بكل ما كان متداولا في الساحة الثقافية لمدينة شنقيط إبان القرنيين الثاني والثالث عشر، وهي كذلك تحتفظ بخطوط علماء الأسرة وبعض العلماء الآخرين مثل شيخ الشيوخ سيد محمد بن حبت المتوفى سنة 1288ه، والشيخ بن حامن المتوفى سنة 1318ه من خلال نصه الطبي النادر عن سبب العمى، وكيفية الحفاظ على البصر. وكذلك بعض نصوص الشيخ سيد المختار الكنتي، وغيرهم رحمهم الله جميعا.
إن مثل هذه المكتبات التي ما زال أهلها يضنون بها، وكأنهم لا يعلمون أن لها فائدة كبيرة، بل هي لبنة أخرى من لبن صرح ثقافة مدينة شنقيط، تجب المحافظة عليه، من خلال التعريف بأصحابها وإعطائهم المكانة العالية ضمن ملاك مكتبات مخطوطات شنقيط الضائعة، والتي لا يعرف مقدارها إلا من له حب وغيرة على تراث هذه المدينة.
إننا نعلم نحن الذين نبحث عن هذا التراث أن في مدينة شنقيط عدة مكتبات عند أشخاص لا يريدون أن ينضموا إلى ملاك المكتبات تعففا وتمنعا، فعلينا البحث عنهم وتسجيل تراثهم، ومن ثم تصنيفه، وإدخاله إلى دورة الحياة الثقافية للمدينة، فما تحتويه مكتباتهم يعد رافدا وسندا وتتميما للثورة الثقافية التي تشهدها المدينة هذه الأيام، فلا تقدم لشعب إلا بتثمين تراثه، ولا تثمين للتراث إلا بالإيمان بمصادره والحفاظ عليها.